من روائع أبي الطيب (24) الحلقة الرابعة والعشرون ***************** يكتبها: #تركي_الدخيل ***************** (60) وَأَتْعَبُ مَنْ نَادَاكَ مَنْ لَا تُجِيْبُهُ * وأَغْيَظُ مَنْ عَادَاكَ مَنْ لَا تُشَاكِلُ يقول: إنَّ أكثَرَ الناسِ تَعَباً، هو ذاك الذي يُنَادِيكَ، فَتُعْرِضُ عنه بِعَدَمِ إجَابَتِكَ نِدَاءَه، وهو الذي بَذَلَ جَهْدَه في النِّدَاءِ، فعادَ عليه الجَهْدُ بالخَيْبَةِ. وقيل: أرادَ أنَّ أكثَرَ حُسَّادِكَ تَعَباً، هو الذي يُناديكَ باهتمامٍ، فَتَتَرَفَّعُ عن إجابَتِه، ولا تُجَارِيه برَدِّكَ عليه، لأنَّك ترى أنه ليس أهْلاً لِأَنْ يَرْتَقيِ مَرْقَاكَ، ويكونُ نِداً للحَدِيثِ معك. ولا يَقْهَرُ الإنسانُ خَصْمَهُ وعَدُوَّهُ بمِثْلِ التَّرَفُّعِ عنه. كما أنَّ أَكْثَرَ أعدائِكَ اغتياظاً مِنْكَ، الذي ليس شَبِيهاً لك، ولا هو في دَرَجَتِك ومَنْزِلَتِك. شَاكَلَ الرَّ��ُلُ غيرَه: شَابَهَهُ، شاكلتَ عدوَّك، صارَ شكلُكَ مثلَ شَكْلِه. وهو من المُشَاكَلَةِ: وهي المُوَافَقةُ، والمُمَاثَلَةُ، والمُشَابَهَةُ. والمقصودُ بقوله: (مَنْ لا تُشَاكِلُ)، أيْ مَنْ لا تُشْبِهُه في المُيُولِ، والاهتماماتِ، والمعارف. في (معجز أحمد) عن البيتِ: «وأَشَدُّهُمْ غَيْظاً، مَنْ عَادَاكَ وهو دُونَكَ في العَمَلِ، فيَعْجِزُ عن مُقَاوَمَتِك. وقيل: أرادَ إذا دَعَاكَ مَنْ هو دُونَكَ غَاظَكَ ذلك مِنْهُ». ***************** (61) وشِبْهُ الشَّيءِ مُنْجَذِبٌ إِلَيهِ * وأَشْبَهُنَا بِدُنْيَانَا الطَّغَامُ يقول: يميل الشبيه لما يشبهه، ولذلك فالدنيا، ولأنها بلا عقل، فإنها تميل إلى (الطَّغَام): وهم الجهلة، وأراذل الناس، الذين لا يعرفون شيئاً. وجامع الشبه بين الدنيا، والجهلة الأرذال، هو سوء السلوك، والخسة، واللؤم، والتجني. وفي الموضوع، قال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، رضِيَ اللهُ عَنْهُ: «مَا مِنْ شَيْءٍ أَدَلُّ عَلَى شيءٍ، وَلَا الدُّخَانِ عَلَى النَّارِ مِنْ الصَّاحِبِ عَلَى الصَّاحِبِ». ومن ذلك، قول التابعي الجليل، مالك بن دينار: «لا يتّفق اثْنان في عِشْرةٍ، إلاّ وفي أحدهما وصفٌ من الآخر، وإنّ أجْناسَ الناس كأجناس الطير، ولا يتّفق نوعان من الطّير إلاّ وبينهما مناسبة»، فرأى يوماً غراباً مع حمامة، فقال مُتعجِّباً: «اتفقا وليْسَا منْ شكلٍ واحد»! ثم طارا، فإذا هُما أعرجان، فقال: «منْ هٰهنا اتفَقا»! ***************** (62) أَمَّا الفِرَاقُ فَإِنَّهُ مَا أَعْهَدُ * هُوَ تَوأَمِي لَو أَنَّ بَيناً يُولَدُ وَدَّعَ أبو الطيب صديقاً لهُ، فقال ارتجالاً، هذا البيتَ، كما جاءَ في ديوان المتنبي. يقول: إنَّ قُرْبِي من الفِراقِ، وما أَعْهَدُ من تَكْرارِه، جعلَه شقيقاً لي وتوأماً. والتوأمُ، هما المولودان معاً، من حَمْلٍ واحدٍ، في بَطْنٍ واحدٍ... ولا شيء كقُرب التَّوْأم من توأمِهِ، فهما متجاوران، شِبْهَ ملتصقَيْن في رَحِمٍ واحدٍ، تسعةَ أشهر، هي مدةُ حَمْلِهِما. ثم يُولدَان معاً، وربما كان بين ولادة أحدهما والآخر، دُقيقات معدودة. وبعد الولادةِ، جرت العادةُ أن يجمعَ أهلُ التوأمِ بينهما في كل شأنِهِما، من الإطعامِ إلى الإرْضاعِ، بل حتى تنظيفِهما وعادة ما يكون ذلك في وقت واحد، إذ غالباً ما يَحدُث ذلك في الوقت نفسه! وكما هذا القُرْبُ اللصيقُ بين التوأمِ، اعتبر الشاعرُ علاقتَه بالفِراقِ مثلَها، لدرجةِ وَصْفِهِ الفراقَ بأنه توأمُه، لو كان (بيناً) يُولَدُ، والبَيْنُ: هو الفِراقُ. وقوله: (لو أن بيناً يولَدُ): من ذِكْرِ المعلومِ، وبيانِ الواضحِ، فكل واحدٍ يعلَمُ أن الفراقَ لا يُولَدُ. وهو مثلُ قولِ الأعرابي: فَأَنْتَ النَّدَى وَابْنُ النَّدَى وَأَخُو النَّدَى * حَلِيفُ النَّدَى مَا لِلنَّدَى عَنْكَ مَذْهَبُ ***************** (63) ومَا كَمَدُ الحُسَّادِ شَيئاً قَصَدْتُهُ * ولَكِنَّهُ مَنْ يَزْحَمِ البَحْرَ يَغْرَقِ الكَمَدُ: الغَيْظُ، وهو الغَمُّ والحُزْنُ الشديدُ. يقولُ: لَمْ يَكُنْ هَدَفِي أنْ أُغِيظَ وأُحْزِنَ حُسَّادِي، ولكنهم يَتَطَفَّلُون عليَّ ويُزَاحِمُونَنِي، ولا قُدْرَةَ لهم على ذلك، فأنا كالبَحْرِ في فَضَائِلِي، ومَنْ يُزَاحِمِ البَحْرَ، ويحاوِلْ أَنْ يَغْلَبَهُ، لا بُدَّ أنْ يغرَقَ في البَحْرِ، وكذا غَرَقَ مَنْ زاحَمَنِي في بَحْرِي. ***************** (64) أَظْمَتْنِيَ الدُّنيَا فَلَمَّا جِئْتُهَا * مُسْتَمطِراً مَطَرَتْ عَلَيَّ مَصَائِبَا أَظْمَتْنِي: أَعْطَشَتْنِي. وأصلُ أظْمَتْنِي: أَظْمَأَتْنِي، فحَذَفَ الشاعرُ الهمزةَ للضرورة الشعريةِ. يقول: إنَّ الدُّنيا بتَكَالِيفِها، وما تَفْرِضُ عليَّ مِنْ مَشَقَّةٍ وعَناءٍ، جَعَلَتْنِي أَعْطَشُ، فلمَّا جِئْتُها طالباً كِشْفَ ما فَرَضَتْ عليَّ مِنْ كُرْبَةٍ بالمَطَرِ، أمْطَرَتْ عليَّ بلايَاها ومَصائِبَها ومصاعِبَها، بَدَلاً مِنْ سُقْيَايَ بالخَيْرَاتِ. وهذا مِنْ أبياتِ أبي الطيب المتنبي، التي بَدَا فيها مُتَشائِماً، شَاكِياً، ولدَيْهِ عددٌ من الأبياتِ بهذا الوَصْفِ، لكنَّها لا تُقارَنُ بما في شِعْرِه مِن حَثٍّ على المَكارِمِ، وتَحْفِيزٍ على بُلوغِ عالياتِ المَرَاتِبِ. ***************** #من_روائع_أبي_الطيب (24) #من_روائع_أبي_الطيب24 #المتنبي #تركي_الدخيل #سياحة_مع_بيت_شعر #مع_شاعر #تركي_الدخيل #الاتحاد #وجهات_نظر @hamadalkaabi80 @wejhatnazar